الزراعة اليمنية تحت ضغط المناخ وطرائق التكيّف

تتوزّع الزراعة اليمنية على طيفٍ فريد من الأقاليم البيئية؛ من سهول تهامة الدافئة ووديانها التي تُغذّيها السيول الموسمية، إلى مدرّجات الجبال في إبّ وتعزّ وحراز وصنعاء، وصولاً إلى أودية حضرموت والمهرة حيث الزراعة المقتصدة بالماء. هذا التنوع يمنح اليمن مرونةً كامنة، لكنه يضعه في قلب أزمةٍ مركّبة: تغيّر مناخي يُربك مواعيد المطر ويُفاقم الجفاف والسيول، وندرة مائية تاريخية تضع الموارد عند حدّ «العُسرة المطلقة»—فالموارد المائية المتجدّدة لا تتجاوز نحو 83 مترًا مكعبًا للفرد سنويًا (2020)، وهو رقمٌ أدنى بكثيرٍ من عتبة الندرة الشديدة المعتمدة دوليًا، مع تجاوزٍ مزمنٍ للاستهلاك حدود التجدد الطبيعي وما ينجم عن ذلك من تنافسٍ محلي على المياه في المدن والريف على السواء.
في تهامة وأبين ولحج، ظلّ «السَّيْل» مدرسةَ ريٍّ ضاربةً في التاريخ؛ تُحوَّل جريان الأودية الموسمي إلى حقول الذرة الرفيعة والدخن والسمسم عبر قنواتٍ وحواجز ترابية وحجَرية. ورغم أن هذه المنظومة أثبتت كفاءتها قرونًا، إلا أنها باتت اليوم أكثر عرضةً للتلف بسبب السيول الأعنف وتبدّل مسارات الجريان وتراكُم الرسوبيات، ما يستدعي تحديثَ مآخذ السيول، وتنظيم القدرة الاستيعابية للحواجز، وإدخال أدواتٍ حديثةٍ للرصد والصيانة تشاركيًا مع المزارعين. إن الأدبيات الفنية تُعرّف الريّ السيلي بأنه تحويل اندفاعاتٍ مطرية قصيرة العمر إلى ريٍّ حقلي منظم، وتوثّق خبراتٍ يمنية متراكمة في وديان زَبيد ورِمَع وتُبَن وأبين يمكن البناء عليها في برامج التكيّف.
أما في الهضاب والجبال، فالمدرّجات الزراعية ليست مشهدًا جمالياً فحسب؛ إنها هندسةٌ مائية لحصاد المطر وحماية التربة، ونظامٌ اجتماعيّ يقوم على «العَون» الجماعي في ترميم الجدران بعد العواصف. إدراج «مدرّجات اليمن» على القائمة التمهيدية للتراث العالمي يلفت إلى قيمتها البيئية والثقافية المتداخلة، لكنه في الوقت ذاته يذكّر بهشاشتها: فالتخلّي عن الصيانة يفتح الباب للانجراف والتصحّر وفقدان خصوبة التربة، وهو ما وثّقته دراسات متخصصة ودفع جهاتٍ أممية إلى مساندة مبادرات الترميم وبناء الجدران الواقية.
تحت سطح الأرض، تتكثّف الأزمة: في حوض صنعاء مثلًا قفز السحب الجوفي من نحو 25 مليون متر مكعّب سنويًا في سبعينيات القرن الماضي إلى قرابة 330 مليونًا في 2020، بينما ظلّ معدّل التغذية الطبيعية بحدود 80 مليون متر مكعّب—هوّةٌ تُفضي إلى هبوط المناسيب وجفاف آبارٍ متزايد. ويُضاف إلى ذلك أثرٌ غير مقصود لثورة الضخّ بالطاقة الشمسية في الأرياف؛ فتكاليف التشغيل شبه الصفرية تُغري بزيادة الضخّ، فتتسارع وتيرة النضوب ما لم تُرفق بمنظومة تنظيمٍ ورقابةٍ وعدّاداتٍ وحوافز للاقتصاد بالماء.
وإذا كان المطر هو «ميزانية» الزراعة، فإن المناخ الجديد يربك ميزانيته: ارتفاعٌ مُطّرد في الحرارة، وتباينٌ أكبر في التوزيع الزمني للأمطار، ونزوعٌ إلى موجاتٍ أدشد من الأمطار الغزيرة المتقاربة، وكلّها عوامل تزيد مخاطر الفيضانات المفاجئة وتُضعف إنتاجيّة المحاصيل والرعي إذا لم تُقابَل بإدارةٍ ذكية للتربة والمياه ومحاصيل أكثر تحمّلًا. تشير مراجعات علمية ومحاكاة حديثة إلى ترجيح ازدياد تطرّف الهطل، بما يحسّن بعض المواسم نظريًا لكنه يرفع كلفة الحماية والأسوار والمدرّجات ويعقّد التخطيط الحقلي.
على هذا القوس الجغرافي—من المخا، بوابة البن التاريخية، إلى مدرّجات حراز—تتبدّى قصةُ محصولٍ أيقوني يتكيّف أو يذبل. البن اليمني، الذي يعتلي مدرّجاتٍ شاهقة تحت ظلال السدر والعلب، يواجه اليوم ارتفاع الحرارة وانتشار آفاتٍ كحفّارات الساق وتمليح التربة في بعض السفوح، ما يدفع إلى تبنّي ممارساتٍ تكيّفية: الزراعة تحت الظلّ، التغطية العضوية للتربة، تحسين الصنف والجذر، حصاد المياه في «مَصَانِع» صغيرة ومدرّجات دقيقة، وتوجيه خطوط الإنتاج إلى جودةٍ أعلى تعوّض انخفاض الكميّات. مبادراتٌ ميدانية حديثة وثّقت قصص مزارعين في تعزّ يواجهون هذه التحدّيات عبر حلولٍ بيئية منخفضة التكلفة وشراكاتٍ تسويقية تُحافظ على القيمة للمزارع والمكان.
ما الذي يعنيه «التكيّف» عمليًا لمزارعٍ في وادي تُبَن أو على مدرّجٍ في يَفَع؟ أولًا: تثبيت التربة والماء عبر صيانة المدرّجات والجدران، ونثر أحزمةٍ حجرية على خطوط الكنتور، واستعمال محسناتٍ عضوية لرفع سعة الاحتفاظ بالماء، مع منع الرعي في الحقول بعد الحراثة لتجنّب الرصّ. ثانيًا: حصاد المطر والسيول بتوسيع المصاطب الصغيرة وبرك التجميع وأحواض التهدئة أمام السيول، وتحديث تحويلات السيول لزيادة المرونة وتقليل فقدان الرسوبيات. ثالثًا: التنويع المحصولي نحو أصنافٍ أقصر دورةً وأكثر تحمّلًا للحرارة والملوحة (ذرة رفيعة، دخن، سمسم، بقوليات)، مع إدخال البستنة المنزلية وحقول العائلة لتخفيف ضغط السوق. رابعًا: إدارة الريّ بالتحويل إلى تقنيات مقتصدة تنقيط، ريّ على فتراتٍ متباعدة، وربط الضخّ الشمسي بعدّادات وحدودٍ قصوى يومية مع حوافز مالية لمن يلتزم. خامسًا: خدمات الإرشاد والمعلومة عبر رسائل طقسٍ دقيقة وإنذاراتٍ مبكرة للسيول والحرارة، ومدارس الحقل للمزارعين لتجريب الممارسات قبل تعميمها. سادسًا: تمويلٌ صغيرٌ أخضر (قروضٌ دوّارة، تأمينٌ مناخي على المحاصيل) يتيح الاستثمار في شبكات الريّ الصغيرة والبذور المعتمدة والشتلات ومصائد الرسوبيات. هذه الحزمة ليست نظرية؛ برامج البنك الدولي ومنظومة الأمم المتحدة تُنفّذ بالفعل حزمًا شبيهة تشمل تحسين الريّ الصغير وحصاد المياه وترميم القنوات والطرق الزراعية، إلى جانب سياسات الإدارة المتكاملة للموارد المائية التي أثبتت جدواها متى توفّر التمويل والحوكمة.
يتطلّب المسار الوطني مظلّة سياساتٍ واضحة تضمن اتساق الجهود وتراكم أثرها. «البرنامج الوطني للزراعة والثروة السمكية 2024–2030» يمثّل إطارًا لتوجيه الاستثمارات نحو الأمن الغذائي وسلاسل القيمة المرنة، بينما تُحدّث وكالاتٌ أممية سياساتها لتقرّ بأن تغيّر المناخ بات محرّكًا رئيسًا للجوع والهشاشة، الأمر الذي يدفع إلى دمج التكيّف في الإغاثة والإنعاش وبناء القدرة على الصمود. وفي الميدان، وثّقت الأمم المتحدة نجاحاتٍ ملموسة في إعادة تأهيل السواقي والمدرّجات وبناء الجدران الواقية، بما دعم آلاف النساء والمزارعين وقلّص خسائر الفيضانات ورفع الإنتاجية.
ومع أن المشهد الإنساني شديد القسوة اليوم، فإن نافذة الفعل لا تزال مفتوحة إذا ما وُضعت ثلاث قواعد للعمل: لا ماءَ بلا حوكمة—العدّادات، التراخيص، مجالس الأحواض، والبيانات المفتوحة شرطٌ لوقف النزيف الجوفي؛ لا مدرّجات بلا صيانة—ميزانيات سنوية للترميم السريع بعد العواصف، و«عَون» مجتمعي مُنظَّم مدعومٌ بمنحٍ صغيرة؛ لا ريّ شمسي بلا سقف—ربط الدعم الشمسي بإدارةٍ صارمة للسحب وحوافز موثّقة للترشيد. يُضاف إلى ذلك الاستثمار في سلاسل قيمةٍ «مقاوِمة للمناخ» (بنٌّ ظلّي عالي الجودة، عسلٌ جبلي، سمسم وبقوليات) تخلق دخلاً مستقرًا وتُشجّع الحفاظ على التربة والمياه بدل استنزافهما. إن الزراعة اليمنية، بحِكم إرثها التقني والمعرفي، قادرةٌ على التكيّف متى صيغ «عقدٌ مائي» جديد بين الدولة والمجتمع والمستثمرين—عقدٌ يُعيد تعريف الربح باعتباره زيادةً في رصيد التربة والماء، لا في المحصول وحده.
من المخا إلى المدرّجات تتشكّل خريطة صمودٍ يمنيّة: نُحدِّث تراث الريّ السيلي بدل استبداله، نُرمِّم المدرّجات بدل تركها تنهار، نُعقْلِن الضخّ الشمسي بدل إطلاقه بلا قيود، ونُعيد الاعتبار للمحاصيل الأصيلة والدورات الزراعية القصيرة. هذه ليست رومانسيةً بيئية؛ إنها سياسةُ أمنٍ غذائي ومائي في زمنٍ تتجاور فيه الجائحة المناخية مع الندرة المزمنة. من يُدِر الماء يُدِر الحياة—ومن يُحسن إدارة المدرّجات يحفظ للزراعة مقعدًا في مستقبل اليمن.




