المخطوطات والمدارس العلمية في زَبيد وتريم.. إرث المعرفة اليمني

تتبدّى زَبيد في تهامة وتريم في حضرموت كصفحتين ناصعتين في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية باليمن؛ مدينتان لم تكتفيا باحتضان العلم، بل صارتا مصنعين مستمرين لإنتاجه وتدفقه عبر القرون. حين نتحدث عن «المخطوطات اليمنية» و«المدارس العلمية» فإننا لا نستعيد مجرد صور من الماضي، بل نعالج بنية حية صاغت هوية اليمن المعرفية وأسهمت في تشكيل خريطة التعليم والوراقة والرحلة والإسناد، وتركَت آلاف النصوص المخطوطة التي تنتظر ترميمًا دؤوبًا ورقمنةً رصينة وفهرسةً موحّدة تعيدها إلى الوعي العام والبحث الأكاديمي. ويكاد الباحث يلمس في زَبيد وتريم «اقتصادًا للمعرفة» سبقَ عصره وقفياتٌ تموّل حلقات الدرس، أربطةٌ ومدارس تُسكِن الطلبة وتُيسِّر لهم الأدوات، خزائنُ عائلية تُؤرِّخ انتقال الكتب بين الأجيال، وحلقاتُ إسنادٍ تربط اليمن بالحجاز ومصر والشام وشرق إفريقيا والهند وجنوب شرق آسيا.
في زَبيد تشكّلت منظومةٌ متكاملة حول صناعة الكتاب؛ فالمساجد الجامعة لم تكن مكانًا للصلاة فحسب، بل قاعاتٍ مفتوحةً لقراءة المتون والشروح والمختصرات، ومنحِ الإجازات، وإقامة المذاكرات التي يُنْقَّح فيها النصُّ ويُعْرَض على الأقران. وإلى جوار المسجد نشأت حِرَف النسخ والتجليد والتذهيب والتعقيب، وصار الورّاق جزءًا من نسيج المدينة المهني مثل الفلّاح والتاجر. وللمخطوط الزبيدي علاماتٌ يمكن تمييزها عند المقارنة: ورقٌ رقيق صقيل في كثير من النسخ، أحبار نباتية وكربونية تحافظ على ثبات اللون، خطٌّ نسخيّ دقيق يميل إلى الضبط بالحركات في المتون التعليمية، وتجليدٌ جلديّ محكم أحيانًا بنقوش هندسية ونباتية ولسانٍ حافظ يحمي الصفحات. أما قيود التملّك والسماع والإجازة فتمثل «سلسلة الأمان النصي»، إذ تروي لنا أسماء النُّسّاخ وأوقات النسخ ومجالس القراءة وطرائق تداول الكتاب داخل المدينة وخارجها. ومن يطالع موضوعات الخزائن الزبيدية يطالع معها كثافة الفقه الشافعي وأصوله، وعلوم الحديث روايةً ودراية، وتقاليد العربية: نحوًا وصرفًا وبلاغةً وشروحًا على المتون، فضلًا عن نصوصٍ في التاريخ والأنساب والرحلات والطب التقليدي والفلك والمواقيت، وكلها تعكس حاجة المجتمع وتكوينه العلمي والأدوات المطلوبة لتصريف المعاش اليومي والعبادة والتنظيم القضائي.
وتبرز تريم بسمتها الروحية والعلمية معًا؛ مدينةٌ كَثُرَت مساجدها ومدارسها وأربطتها حتى صار ذكرها مرادفًا لشبكات الإسناد والرحلة. إن أكثر ما يثير الانتباه في «المخطوطات التُرَيمية» كثرةُ الحواشي المثقلة بأختام الشيوخ وإشارات السماع وتواريخ الإقراء، بما يجعل النسخة الواحدة خريطةً موجزة لرحلة نصٍّ بين تريم وسيئون وشِبام وبين الحجاز وسواحل الهند وشرق إفريقيا. ويغلب على مقتنياتها علمُ الحديث وعلومُ السلوك والتصوف والفقه الشافعي وعلمُ الأنساب، مدعومًا بمدوّنات شعرية ودينية تبرز بلاغة الخطاب الدعوي الحضرمي وقدرته على التأثير العابر للحدود. هذا التراكم لم يكن ممكنًا لولا بنيةٌ اجتماعيةٌ تحتضن الطالب وتُتيح له العيش والتعلّم في آن، وقفياتٌ تموّل النسخ وتزوّد الخزائن بالكتب، ومجالسُ تدريسٍ تعِدّ الطالب لإتقان «آلة العلم»: حفظًا وفهمًا وتنزيلًا على الواقع.
ولئن بدت هذه الصورة تاريخية، فإنها تُلقي ضوءًا كاشفًا على تحديات الحاضر. فالمخطوط اليمني يواجه اليوم «محنة المادة»: رطوبةٌ عالية في السواحل وحرارةٌ تُضعف الألياف، وبيئاتُ تخزينٍ غير مهيأة، ونقصُ أدوات الصون الأولية من صناديق متعادلة الحموضة وأجهزة رصد الرطوبة والحرارة، إلى جانب مخاطر الضياع والتهريب وأسواقٍ خارجية تستنزف التراث. وتتضاعف المشكلة مع «محنة البيانات»: ففهرسةُ المخطوطات موزّعةٌ في سجلاتٍ متباينة المعايير، وبعضها مكتوبٌ بغير لغةٍ وصفيةٍ قياسية، ما يجعل «قابلية الاكتشاف» ضعيفةً في محرّكات البحث وفي منصات الفهارس العالمية. والحلُّ لا يكون بمشاريع متفرّقة، بل بمنظومةٍ وطنيةٍ متكاملة: بروتوكولات حفظٍ مادي تضبط درجات الحرارة (نحو 18–22° مئوية) والرطوبة النسبية (45–55%) قدر الإمكان، وبرامجُ ترميمٍ خفيفة تبدأ بإيقاف النزيف الحِبري وتقوية المفاصل وترقيع الكرّاسات المتفككة، ورقمنةٌ مرحلية عالية الدقة تراعي حساسية الورق وتجنب الوميض والحرارة، وتنتج نسختين: أرشيفية غير مضغوطة للحفظ، وأخرى خفيفة للتصفّح العام، على أن تُرافقها سياسةُ وصولٍ متدرجة تحمي حقوقَ الجهة المالكة وتُيسِّر في الوقت نفسه البحث العلمي.
ومن جهة المعطيات الوصفية، لا بدّ من «بطاقةٍ قياسية» لكل مخطوط تتضمن العنوان ونسبةَ الكتاب إلى مؤلفه، وبداية النص ونهايته، وعدد الأوراق والمقاس ونوع الورق والخط وحالة التجليد وتاريخ النسخ إن وُجد ومكانه، وإشارات السماع والإجازات وقيود التملّك. كما ينبغي اعتماد مفرداتٍ ضابطة عربية (Controlled Vocabulary) لأسماء العلوم والبلدان والأعلام والموضوعات، مع مطابقةٍ لاتينية تُمكّن من التوافق البيني مع قواعد البيانات الدولية. إن هذه المعايير لا تخدم الفهرسة فحسب، بل ترفع مباشرةً «تحسين محركات البحث» لمصطلحات مثل: المخطوطات اليمنية، مدارس العلم في اليمن، مكتبات زَبيد، مكتبات تريم، فهرسة المخطوط العربي، ترميم المخطوطات، التحقيق العلمي للنصوص، بحيث يظهر المحتوى المحلي في مقدمة نتائج البحث العالمية ويجذب الباحثين والمؤسسات الشريكة.
وإذا كان التحقيقُ العلمي حجرَ الزاوية في إحياء النصوص، فإن منهجَه الراسخ يبدأ من تثبيت العنوان ونسبة الكتاب عبر المقارنة الداخلية والخارجية، ثم مقابلة النسخ وتعيين «نصٍّ أمّ» مع توثيق الفروق في جهازٍ نقدي واضح، ثم تعليقٍ علميٍّ بحدٍّ كافٍ يشرح المصطلحات ويعرّف بالأعلام ويضبط الشواهد، مع إعداد فهارس للآيات والأحاديث والأبيات والأعلام والأماكن. ولأن زَبيد وتريم اشتهرتا بالتقليد التعليمي القائم على المتون والشروح، فإن العناية بسلاسل الشروح والحواشي والاختصارات تصبح واجبًا مضاعفًا؛ فهي التي تُظهر «تاريخ المعاني» وكيفيةَ انتقالها وتكيّفها مع البيئات المحلية. ويستحسن أن تُخصص مشاريعُ مشتركة بين الجامعات اليمنية ومراكز الأبحاث العربية والدولية لإحياء سلاسل بعينها (كشروح متون الفقه أو كتب الآداب والسلوك أو تواريخ المدن)، بما يحقق قيمةً مضافة علميًا وثقافيًا ويستقطب التمويل ويُدرِّب جيلًا جديدًا من المحققين.
ومن صميم رسالة الإعلام العام—ومنها المنصات الرقمية لقناة سبأ—أن يُحوِّل هذا الإرث من «خبر ثقافي» إلى «موردٍ معرفي» متاح للناس. يمكن ذلك عبر سردٍ قصصي رقمي يرافق رحلة المخطوط من الناسخ إلى القارئ المعاصر؛ لقطاتٌ مقرّبة لزخارف العناوين، تسجيلاتٌ صوتية لقراءة صفحةٍ بصوتٍ عذب، خرائطُ تفاعلية تُظهِر مسار الإسناد بين زَبيد وتريم وموانئ المحيط الهندي، وقصصُ عائلاتٍ حافظت الخزائنَ في بيوتها قرونًا. هذا الأسلوب يخلق «طلبًا اجتماعيًا» على التراث، فيحميه بقدر ما يُعرّف به. كما يمكن إتاحة «حزم بيانات مفتوحة» لبطاقات الفهرسة عبر واجهات برمجية (APIs) تسمح للباحثين ببناء تطبيقاتٍ ومشاريع عرضٍ تعليمية، شرط احترام الملكية المعنوية والخصوصية ومتطلبات السلامة.
ولا تنفصل المادة عن المنهج. فالمخطوط نصٌّ ماديٌّ وفكريٌّ في آن، وخدمته تتطلب خبراتٍ متقاطعة: الكوديكولوجيا لتحليل الورق والأحبار والتجليد ومسارات الكرّاسات، والباليوغرافيا لدراسة أشكال الخطوط وتطوّرها، وعلم النصوص لإعادة بناء الرواية وتحقيقها، وإدارة معلوماتٍ متقدمة لضمان جودة البيانات وقابليتها للبحث والاستدعاء. ومن ثَمّ يَحسن إنشاء برامج تدريبٍ محلية قصيرة ومتوسطة المدى تُخرِّج فنيي ترميمٍ، ومفهرسين يجيدون الوصف القياسي، وباحثين شبابًا في التحقيق. هذه «البنية البشرية» هي الاستثمار الأهم، لأن خزائن المخطوطات—مهما رُمِّمت وجُمِّلت—تبقى بلا روحٍ إن غاب قارئٌ ماهرٌ يُعيد وصلها بالدرس العام.
وعلى مستوى السياسات، يلزم تطوير إطارٍ وطنيٍّ يحفّز الإبلاغ عن المخطوطات الخاصة وإدراجها في سجلٍّ وطنيّ، مع صيغِ إعارةٍ وعرضٍ مؤقت تحترم حقوق المالكين وتُقدِّم لهم حوافز معنوية ومادية، وتُتيح للجهات الأكاديمية فحص النسخ وتصويرها وفق معايير موحّدة. ويُستحسن العمل مع الجهات الأمنية والقانونية لمكافحة التهريب والاتجار غير المشروع، عبر نظامٍ رقميٍّ لتتبع الأختام وقيود التملّك، وتبادل البيانات مع المنصات الدولية المعنية باسترداد الآثار. إن «أمن التراث» جزءٌ من الأمن الوطني، ولا يقلُّ شأنًا عن حماية المواقع الأثرية.
ولكي يستفيد القارئ والباحث من هذا الإرث عمليًا، تكفي مجموعةٌ من القواعد البسيطة: التعاملُ اللطيف مع الكرّاسات، عدمُ فرد المِفصل بقوة، استخدامُ دعاماتٍ إسفنجية، تجنّب اللمس المباشر للأحبار الحساسة، وتوثيقُ كل عملية تصفحٍ بالصور والملاحظات (رقم الحافظة، بداية النص ونهايته، عدد الأوراق، القياسات، حالة التجليد). ومع كل ذلك، يبقى «التحقق من الأصالة» عملًا تراكميًا: مقارنةٌ مادية للنُّسخ، قراءةُ القيود، مطابقةُ النصوص بفهارس عالمية، واستشارةُ المختصين عند الاشتباه. إن هذا التواضع المنهجي يحمي الباحث من أوهام «النسخة الفريدة» ويُعيد قيمةَ العمل الجماعي في التحقيق.
إن قيمة زَبيد وتريم ليست في الماضي وحده؛ قيمتهما في قدرتهما على أن تكونا اليوم منصتين لنهضةٍ معرفيةٍ جديدة. فحين تجتمع الفهرسة الموحّدة مع الرقمنة الرصينة والسرد الرقمي الجاذب والشراكات الأكاديمية، يتحول «إرث المعرفة اليمني» إلى قوةٍ ناعمةٍ تعرّف بالعقل اليمني وتضعه في مكانه الطبيعي على الخريطة العربية والإسلامية. ولئن كانت الحروبُ والنزاعات قد عطّلت الكثير من مشاريع الثقافة، فإن ترميم الذاكرة المكتوبة هو أذكى استثمارٍ في السلم الأهلي والهوية الجامعة: كتابٌ محفوظ، ونسخةٌ مُحقَّقة، ومنصّةٌ تُعَلِّم؛ ثلاثيةٌ تُعيد تشكيل الصلة بين المجتمع ومعارفه، وتمنح الأجيال الجديدة ثقةً بأن لديهم من الماضي ما ينهضون به إلى المستقبل. وفي كل ذلك، تظلّ زَبيد وتريم شاهدتين على أن اليمن لا يُقاس بما ضاع، بل بما بقي من قدرةٍ على الحفظ والابتكار والتجدد؛ وأن المخطوط، مهما تقادم ورقه، يظلّ فتيلًا صالحًا لإشعال نورٍ جديد.




