ثقافة

الموسيقى اليمنية.. من الدان الحضرمي إلى الغناء الصنعاني

تتجلى اليمن بوصفها جغرافياً سمعيةً مفتوحة على الريح والبحر والجبل، تتقاطع فيها طرق التجارة وروح التديّن والمدن القديمة لتنتج خزفاً فريداً من الطبوع والإيقاعات والطرائق الغنائية. وإذا كان الجنوب العربي قد عُرف بتنوع لسانه ولهجاته، فإن تنوعه الموسيقي لا يقل ثراءً ولا رسوخاً؛ فهنا تتجاور الموشحات والمدائح والسماع الصوفي مع غناء المدن والنصوص الحُمَيْنية، وتلتقي أهازيج الصيادين وأغاني الحصاد في السهول الساحلية مع رقصات الجبال وأصوات المزمار والطبول. في هذا النسيج تقف مدرستان تمثيليتان بوصفهما معالم للطرب اليمني: الدان الحضرمي الذي يمثّل ذاكرة الوادي والساحل الشرقي، والغناء الصنعاني بوصفه فنَّ مدينةٍ راكمت تقاليد أداء وصياغة شعرية ومقامات خاصة، لكن المشهد أبعد من ثنائيةٍ مدرسية؛ إنه خريطة كاملة تتداخل فيها الأقاليم، ويطبع كل إقليمٍ روحه على اللحن والإيقاع والكلمة.

الدان في حضرموت يبدأ همساً ويكبر، هو قالبٌ غنائي–شعري يتأسس على مطلعٍ لحني قصير (الدَّانة) يتداوله المؤدّون في جلسةٍ جماعية بوصفه مفتاح المقام ومساحة الاصطفاء الشعري. تتوالى بعده الأبيات، ويتناوب المنشدون على قيادة اللحن واستثماره، بينما يقيم الإيقاع جسراً ثابتاً من الطبول والدفوف، وتتعالق التصاريف الإيقاعية بحسب حال الجلسة والموضوع الشعري. الدان ليس «أغنية» بالمعنى التجاري، بل بيئة إنتاج حيّة للكلمة واللحن، يعاد فيها تدوير المخزون الشعري ويُختبر فيها صوت المنشد وقدرته على المزج بين العاطفة والمعرفة بالمقام. وهو، بهذا المعنى، مدرسة تربيةٍ سمعية قبل أن يكون عرضاً أمام جمهور؛ إذ يمرّ المغني من خلالها بتدرّجٍ طبيعي في التلقّي والتقليد والتجويد، متكئاً على ذاكرةٍ جماعية تتناقل القوالب والطرائق بصمتٍ وهدوء.

وعلى الضفة الأخرى، يُعدّ الغناء الصنعاني وجه المدينة السمعي، فنّ صالونات ومجالس وبيوتٍ داخلية تُدار فيها الجلسة وفق بروتوكول غير مكتوب: شاعرٌ أو نصٌّ حُمَيْنيّ مُنتقى، مؤدٍّ أصيل، عازفٌ على القنبوس (العود الصنعاني القصير الرقبة) أو على العود العربي في نسخته الحديثة، ونَفَسٌ مقامِيّ يميل إلى الرَصانة والتلوين الهادئ. يُبنى اللحن الصنعاني على جملةٍ مغنّاة تتناسل منها تفريعات لحنية دقيقة، وتقوم العبارة الصوتية على اقتصادٍ محسوب في الزخرفة والتطريب، مع حرصٍ على وضوح الكلمة وإيصال معناها. وتتكشّف خصوصيته أكثر حين يلامس نصوص الشعر الحُمَيْني التي تجمع فصاحة التركيب مع ألفاظٍ دارجة دافئة، فتمنح المؤدّي مساحةً للتلوين والانزلاق الرشيق بين الدرجات. في الصنعاني تتقدم المخارج ونعومة الأداء على الصخب الإيقاعي؛ فالإطار الإيقاعي غالباً مقتصد، يترك للسلم اللحني والكلمة أن يقودا المزاج، بينما يكمّم التصفيق والدفّ الخفيف الأطراف ويمنح السامع فسحةً للتلقي العميق.

ولا يكتمل المشهد من دون ذكر أطيافٍ أخرى شكّلت قوام الهوية السمعية لليمن: في تهامة تمتزج ألوان الساحل بإيقاعاتٍ راقصة وأغانٍ وظيفية للصيد والزرع والعرس، وفي عدن ولاحج وتعز تولّد القرن العشرون حداثةً لافتة انتفعت بالبثّ الإذاعي وتسجيل الأسطوانات، فتشكّلت لغةٌ لحنية حضرية جمعت بين الإرث المحلي وتأثيرات البحر الهندي والقرن الإفريقي، وأعطت للأغنية اليمنية جسراً إلى الجمهور العربي الأوسع. أما في المرتفعات الوسطى، فتنهض رقصات البَرَع بوصفها طرفاً مكملاً لمشهد الصوت؛ فالإيقاع هنا ليس خلفيةً للحن، بل جسدٌ يتحرك بالسيف والجنبية وخطواتٍ موزونة تشكّل هي نفسها «آلةً إيقاعيةً بشرية»، يتقدّمها المزمار والطبول في تلاعبٍ مدروس بين التوتر والانفراج. وعلى امتداد البلاد، تصمد المدائح والسَّماع وألوان الابتهال في مساجد المدن وزوايا التصوف، تمدُّ المغنين بلغة الوقار، وتغذيهم بمهارات التلوين المقامي والوقف والابتداء وحسن التخلص.

تنهض الآلات في اليمن بما يليق بالتنوّع: القنبوس بوصفه توقيعاً تاريخياً للغناء الصنعاني وصديقاً حميماً للصوت المنفرد، والعود العربي الذي اتّسع لاحقاً للأغنية الآذعة واللوازم اللحنية الأطول، وطبولٌ أسطوانية وإطارية تؤسّس لجملةٍ إيقاعية متواترة، وأحياناً أدوات معدنية شعبية تُطرق بخفة لتوليد رنينٍ خافت. تتجاور هذه الأدوات مع خبرةٍ أدائية عالية في التحكّم بالنَّفَس وإدارة المقام والتصرّف في «اللزمة»، وتلوين جملة القرار والجواب، وهو ما يجعل المطرب اليمني—في مدرستيه الأبرز—محمّلاً بالمعرفة مثلما هو محمولٌ على الطرب.

والكلمة هنا ليست مادةً ثانوية؛ إذ يتأسس الوجدان الغنائي على نصوصٍ تُزاوج بين صفاء الصورة ورهافة الوجدان، من الغزل العفيف إلى الشكوى الرقيقة وحنين المغترب وحكمة المتصوّف. في الدان تلوّن الجماعة المعنى، تحمله من فمٍ إلى فمٍ حتى يصير «ملكاً مشاعاً» للمجلس، وفي الصنعاني تعبر الجملة الشعرية كأنها نسغُ الأغنية، تُقال على مهل وتُحمل على جسرٍ لحني يليق بها. وقد أنتج هذا التوازن بين الكلمة واللحن رصانةً أسلوبيةً تُحافظ على القيمة الفنية للنص، حتى حين ينفتح على تأثيرات العصر والأجهزة الحديثة وأذواق الجمهور الجديد.

أما اليوم، فالتحدي مزدوج: حماية الإرث وتطويره. الحماية تبدأ بتوثيقٍ علمي عالي الجودة: أرشفة تسجيلات الرواد وأسماء المؤلفين والملحنين، تدوين الألحان والقوالب والإيقاعات، ورقمنة المحتوى وفق معايير تحفظ جودته وقابليته للاستدعاء. ثم تأتي المدرسة: معاهد وكراسي تدريبٍ تُدرّس المقام والإيقاع والأداء التقليدي إلى جانب مهارات الكتابة والتوزيع والتسجيل، بحيث يُمنح الجيل الجديد أدواتٍ متينة للخلق على أساسٍ صلب. والتطوير لا يعني اقتلاع الجذور؛ بل يعني إبداع صيغٍ معاصرة تنقل روح الدان والصنعاني إلى المسرح الكبير ومنصات البث، عبر توزيعٍ يحترم «اقتصاد الجملة» و«هيبة الصمت» بين العبارات، ويستثمر التكنولوجيا في خدمة الدقة والنقاء لا في التزيين المُفرط. وإلى جوار هذا كله تقف السياسة الثقافية: تشريعاتٌ تشجّع الإنتاج المحلي، ومبادراتُ مهرجانات ومسابقاتٍ نوعية، ومنابرُ إذاعية وتلفزيونية تُعيد للذائقة العامة عادة الاستماع الطويل، وتخلق طلباً اجتماعياً على الطرب المُتقَن، وتقدّم للمستمعين سياقاً يشرح الفروق بين القوالب والطرائق والمقامات.

إن الموسيقى اليمنية من الدان الحضرمي إلى الغناء الصنعاني وما بينهما وحولهما ليست مجرد رُقَعٍ صوتية جميلة؛ إنها هويةٌ سمعية تصوغ المزاج العام وتؤرّخ لحياة الناس، وتثبت أن الاعتداد بالمحلي لا يناقض الانفتاح على القريب والبعيد. فحين تُصان الجذور ويُحسن التصرف بها، يغدو التراث قوةً ناعمةً تخاطب العالم من نبرةٍ يمنية واضحة، تُجيد الإصغاء بقدر ما تُجيد الغناء.

ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى