
يستعصي الحديث عن اليمن خارج لغته البصرية؛ فالألوان والأقمشة والمعادن النفيسة هنا ليست زينة عابرة، بل سجلٌّ اجتماعي يتحرك مع الناس في الأسواق والحقول والمناسبات. تتبدى الأزياء والحُليّ اليمنية على اختلاف مناطقها من تهامة الساحل إلى حضرموت الوادي بوصفها «هويةً ملبوسة»، يمكن قراءتها مثل نصٍّ محكم: لكل خيط دلالة، ولكل قطعة فضّةٍ سيرة، ولكل تدرّج لونٍ إشارةٌ إلى بيئةٍ ومزاج، من رطوبة السهل الساحلي وملح البحر إلى جفاف الوادي وهدوء الرمال. وليس مصادفةً أن تتقدّم الفضة اليمنية واجهة المشهد؛ فالميل التاريخي إلى الفضة لمتانتها وتناسبها مع قيم التواضع والاقتصاد، وسهولة تشكيلها صنع ذائقةً محلية فريدة قوامها الخيوط المعدنية الدقيقة (التخريم/الفِليغري) وحبيبات الزينة الدقيقة (التحبيب/الغرانيوليشن) والطرق البارز والدقّ، فكانت القلائد والخلاخل والأساور والأحزمة والخواتم والتمائم أشبه بمتحفٍ متنقّلٍ يروي يوميات الناس وطقوسهم.

في تهامة، حيث الحرّ والهواء الملحي، خفّف الناس أثوابهم واعتمدوا الأقمشة القطنية الخفيفة وألوانًا ساطعةً تتجاور فيها الخطوط والنُّقط، وبات المعْوَز بنسقه المخطّط علامةً ذكوريةً راسخة تُقرأ بها الانتماءات العائلية. تُكمِّل المشهد عمائمُ وأغطيةُ رأسٍ عملية وحِزاماتٌ دسمة، بينما تحتفظ النساء بثيابٍ قطنيةٍ ملوّنة تزدان بتطريزاتٍ يدوية دقيقة تُسمّى محليًا بأسماءٍ تتبدّل من قريةٍ إلى أخرى، لكنّها تتفق في هندسة النقوش وتكراراتها الإيقاعية التي تُحاكي موسيقى الدانّ التهامي. في الداخل الجبلي والسهول المرتفعة، تتكثف زخارف الخيوط المعدنية على الأقمشة الأكثر سُمْكًا، وتتقدم القلائد الفضية ذات العناصر المتدلية (خُرَس، عملات، وريقات) مع التمائم المعدنية الصغيرة التي تُحفظ فيها آياتٌ أو أدعية، وتستقرّ على الصدر كتعويذةٍ جماليةٍ وحِمائية في آن.
وحين يميل الطريق شرقًا نحو حضرموت، تميل الأثواب إلى قَصّاتٍ أكثر انسيابًا وتدرّجاتٍ لونيةٍ هادئة، وتُرى العناية بالتنسيق بين الغطاء والرأس والوشاح والقلادة كأنها «سيمفونية رتيبة» تتجنّب الصخب وتؤثر التوازن. تبرز هنا المخنقة (عقدٌ قصير على العُنق)، والقلائد الطويلة التي تُرصّ وحداتها الفضية على إيقاعٍ منتظم، وتتداخل مع حباتٍ من العقيق اليماني ذلك الحجر الذي صار اسمُه قرين اليمن فتتلوّن الخواتم والسبح بمدرجاتٍ من الأحمر القاني إلى العسلي والدخاني. العقيق هنا ليس مكمّلًا، بل «مفتاح هوية» يُهديه الرجال والنساء في الزواج والنجاح والسفر، ويُحفّ على خواتم بخواتيم فضية محفورة أو مخروطة، وتُضاف إليه أحيانًا خواصّ رمزية يلهج بها الموروث الشعبي.

على الضفة الأخرى من المشهد، تظل الجَنبية بقدر ما هي سلاحٌ تراثي قطعة راقية من الحِلية الذكورية؛ إذ يغدو حزامها الفضي وغِمدها المزخرف ساحةَ براعةٍ للصُّوّاغ. تُحاك النقوش وتُطرّق زخارف هندسية ونباتية في صفائح مذهّبة أو «مُسَوَّدة» بتقنياتٍ محلية، وتُضاف سلاسل وعُقل معدنية تُعلن مكانة حاملها وذائقته. وفي الأعراس والموالد والأعياد، يرتفع منسوب الزينة؛ تتكاثر الوحدات الفضية المتدلية، وتُستعاد قطعٌ موروثة تتناقلها العائلات أحزمةٌ وخلاخل وقلائد بما يجعل الحُليّ «ذاكرةً عائلية» تُعَمِّد الانتقال بين الأجيال. وفي كثيرٍ من البيوت، تُحفظ هذه القطع في صناديق خشبية مزخرفة مع الأقمشة المطرّزة، ويُنظر إليها بوصفها «مِلْك الهوية»: لا تُباع إلا مُكرهة، وتُستعار للزفاف والمناسبات الكبرى لتبقى البركة في نطاق الأسرة.

تقنيًا، تتفرّد الفضة اليمنية بمنظومة صنعةٍ دقيقة تبدأ من سبيكةٍ متوازنة، ثم سحب الأسلاك وتجديلها وخياطتها الفِلّية على إطارٍ رقيق، يتخلله تحبيبٌ دقيق (كراتٌ معدنية مجهرية تثبت بالحرارة) فيظهر السطح كنجيمةٍ مرشوشةٍ بالضوء. وتزدهر كذلك تقنيات الطَّرْق البارز والنقش بالدّق والتكفيت (إلصاق أسلاكٍ أو صفائح رقيقة على سطحٍ آخر)، ويُعانق المعدنُ القماشَ عبر أزرار وقبضاتٍ وأطراف زخرفية تُبدّل الإحساس بالمادة. وتبدو هذه المهارات في وجهها التجاري في أسواقٍ شهيرةٍ للصواغ في المدن القديمة، حيث تتجاور الورش الصغيرة مع محالّ العرض؛ المطرقة والموقد والملقط واليد الثابتة لا تزال أدوات السيادة على المعدن، مهما تقدّمت آلات القطع والصقل الحديثة.
لا تنفصل الأزياء والحُليّ عن الطقس الاجتماعي: فالقطع تتبدّل بتبدّل الحالة؛ للأعراس أثوابٌ أثقل وتطريزاتٌ أغنى، وللموالد زيٌّ يجمع الوقار والبهجة، وللأيام العادية عمليةٌ أخف وتفاصيل أقل. وتتسلل إشارات الحالة الاجتماعية عبر تفاصيل دقيقة: خاتمٌ في اليد اليمنى أو اليسرى، صفٌّ إضافي من العملات في القلادة، لونُ الحاشية على المعوز، نوعُ القماش ولمعان خيوط «الزري». وفي القرى الساحلية قد تبرز موادُّ طبيعية كالأصداف والمرجان تُخاط في أطراف الأثواب أو تتدلّى مع وحدات الفضة، بينما تحضر في الداخل خرزٌ قديمٌ وعقيقٌ مشغول يدوياً، فتمتزج الجغرافيا بالمادة وتنتج تواقيع محلية متمايزة يمكن لعين الخبير تمييزها من نظرة.
هذه الهوية الملبوسة تواجه اليوم تحدياتٍ مركّبة: التوحيد المبالغ فيه للذوق بفعل الموضة السريعة، وتراجعُ التعليم الحِرفي التقليدي، وارتفاعُ كلفة المواد الخام، وهجرةُ الأيدي الماهرة، وغيابُ منظوماتٍ حمايةٍ كافية لحقوق التصميم الشعبي من التقليد التجاري. والحلّ الذكي ليس في متحفٍ جامد، بل في «اقتصاد هوية» يُمكّن الحِرفة من العيش: تدريبُ صُنّاعٍ شباب على التقنيات التراثية مع تحديثٍ واعٍ للأدوات، تحالفاتٌ بين المصممين المعاصرين والصوّاغ التقليديين لإنتاج كبسولات (Capsules) محدودة تعيد توظيف الرموز المحلية بأقمشةٍ قابلة للبس اليومي، شهادات منشأٍ وحمايةُ دلالات جغرافية للفضة اليمنية و«العقيق اليماني»، أسواقٌ رقمية رسمية تُعرّف بالقطع وتاريخها وتضمن سعرًا عادلاً للمنتِج، وسردياتٌ مرئية على المنصات تشرح «كيف تُصنع القطعة»، بحيث يشتري المتلقي القصةَ كما يشتري السلعة.
على المستوى التربوي والثقافي، يمكن للمنصات الإعلامية ومنها موقع قناة سبأ أن تُحوّل هذا الإرث إلى «محتوى تعلمي» جذّاب: خرائطٌ تفاعلية تُظهر توزّع النقوش والزخارف بحسب المناطق، قواميسُ مصوّرة لأسماء القطع وأجزائها وطرائق ارتدائها، مقابلاتٌ قصيرة مع حرفيين يشرحون الفروق بين التخريم والتحبيب والطرق والنقش، وألبوماتٌ مصنّفة تُظهر كيف تغيّر لباس العرس خلال خمسين عامًا. هذه الأدوات لا تحفظ الذاكرة فحسب، بل تخلق طلبًا اجتماعيًا واعيًا، وتُشعِر الحِرفة بأنها «حاضرة في السوق»، فتستبقي الحرفيين في منازلهم وورشهم بدل دفعهم للهجرة أو تغيير المهنة.
ومع العناية بالزينة لا ينبغي إغفال أخلاق الاستدامة: أقمشةٌ قطنية محلية ومنسوجاتٌ يدوية تُدعم التعاونيات الريفية، إعادة تدوير الفضّة من قطعٍ مكسورة لصياغة وحداتٍ جديدة، شفافيةٌ في سلسلة التوريد تضمن خلوّها من الاستغلال، وتوثيقٌ رقمي لكل قطعةٍ بحكايتها وصانعها وبيئتها. والتوثيق هنا ليس ترفًا؛ إنه «ضمان الجودة الثقافية» الذي يجعل من كل سوارٍ أو قلادة وثيقةً صغيرة تُضاف إلى أرشيف الذاكرة الوطنية.
إن الأزياء والحُليّ اليمنية ليست «زركشة» على الهامش، بل لغة هويةٍ قيد التداول، تُقاس بها حرارة الانتماء وتُقرأ بها خرائط المجتمع. الفضة التي تلمع على صدور النساء وأحزمة الرجال ليست معدنًا وحسب؛ إنّها ذاكرةُ بيوتٍ وأهازيجُ أعراس ونداءاتُ أسواقٍ صباحية، وهي كذلك وعدٌ بإمكانية بناء اقتصادٍ محلي من جمالٍ مُستدام. ومن تهامة إلى حضرموت، يبقى الخيط متصلًا: قماشٌ يتنفس البيئة، وحِليةٌ تُضيء الوجه، وحكايةُ بلدٍ تصوغها الأيدي وتلبسها القلوب.




